سورة الحديد - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزال خاشعًا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه، وما نقل عن الكلبي. ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن المبارك. وعبد الرزاق. وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت {أَلَمْ يَأْنِ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ} الآية، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرًا وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ} الخ؟ قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم، وفي خبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، و{يَأْنِ} مضارع أني الأمر أنيًا وأناءًا وإناءًا بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن. وأبو السمال ألما بالهمزة، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفى متوقع.
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا عنى أني السابق، وقال أبو العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينًا وأصل الكلمة من الحين {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضًا فالعطف لتغاير العنوانين نحو:
هو الملك القرم وابن الهمام ***
فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري.
ومسلم. والترمذي عن البراء «كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن» وفي رواية «اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو للقرآن» انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدًّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرءان لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروي السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلًا قد خر مغشيًا عليه فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيًا عليه فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول:
أما آن للهجران أن يتصرما *** وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى *** ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي *** كتابًا حكى نقش الوشى المنمنما
ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيًا عليه فحركناه فإذا هو ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءًا شديدًا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغر به حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد من السبعة {وَمَا نَزَلَ} بالتشديد، والجحدري.
وأبو جعفر. والأعمش. وأبو عمرو في رواية يونس. وعباس عنه {نَزَّلَ} مبنيًا للمفعول مشددًا، وعبد الله أنزل بهمزة النقل مبنيًا للفاعل.
{وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} {لا} نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالًا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهى أيضًا، وقرأ أبو بحرية. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة. ويعقوب. وحمزة في رواية عن سليم عنه {وَلاَ تَكُونُواْ} بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء بالتحذير، وفي {لا} ما تقدم، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامد} أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} صلبت فهي كالحجارة، أو أشد قسوة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلي ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل:


{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}
{اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} فهو تمثيل ذكر استطرادًا لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات} التي من جملتها هذه الآيات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلو ما فيها وتعملوا وجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.


{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} أي المتصدقين والمتصدقات، وقد قرأ أبيّ كذلك، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر. والمفضل. وأبان. وأبو عمر وفي رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، والقرءاة الأولى أنسب بقوله تعالى: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضًا حَسَنًا} وقيل: الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصدق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته، وعطف {أقرضوا} على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي. والزمخشري لأن أل عنى الذين، واسم الفاعل عنى الفعل فكأنه قيل: إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين {الزكواة وَأَقْرِضُواُ} وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة صلة بأجنبي وهو المصدقات، وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب: هو محمول على المعنى كأنه قيل: إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل: إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل: إنه قريب ولا يبعد تنزيل ما تقدم عن أبي علي، والزمخشري عليه، وقيل: العطف على صلة أل في المصدقات واختلاف الضمائر تأنيثًا وتذكيرًا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذين عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل: هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي إن المصدقين والمصدقات يفلحون {وَأَقْرِضُواُ} في الوجهين ليس عطفًا على الصلة بل مستأنف ويضاعف بعد صفة قرضًا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلًا عن كلام رب العالمين، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والذين أقرضوا فيكون مثل قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء
وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري. وأبي علي عليه قال: وأقرب منه أن يقال: إن {المصدقات} منصوب على التخصيص كأنه قيل: {ءانٍ المتصدقين} عامًا على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول: إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا.
ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال: ولما لم يكن الاقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقًا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى ن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه، ولو قيل: والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المقروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي. والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي: القول أي قول أبي البقاء بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر {يُضَاعَفُ لَهُمُ} الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقيل: هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير. وابن عامر يضعف بتشديد العين، وقرئ يضاعف بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} قد مر الكلام فيه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9